الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن
.ومن باب القاضي يقضي وهو غضبان: قال الشيخ: الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال فلذلك أمر الحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب. فقياس ما كان في معناه من جوع مفرط وفزع مدهش ومرض موجع قياس الغضب في المنع من الحكم. .ومن باب اجتهاد الرأي في القضاء: قال الشيخ: قوله: «أجتهد برأيي» يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ولم يرد الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو سنة. وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به. وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وافقه حتى يجتهد فيما يسمعه منه فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وإلا توقف عنه لأن التقليد خارج من هذه الأقسام المذكورة في الحديث. وقوله: «لا آلو» معناه لا أقصر في الاجتهاد ولا أترك بلوغ الوسع فيه. .ومن باب في الصلح: قال الشيخ: الصلح يجري مجرى المعاوضات ولذلك لا يجوز إلاّ فيما أوجب المال ولا يجوز في دعوى القذف ولا على دعوى الزوجية وعلى مجهل ولا أن يصالحه من دين له على مال نسيه لأنه من باب الكال بالكال ولا يجوز الصلح في قول مالك على الإقرار، ولا يجوز في قول الشافعي على الإنكار. وجوزه أصحاب الرأي على الإقرار والإنكار معًا. ونوع آخر من الصلح وهو أن يصالحه في مال على بعضه نقدًا وهذا من باب الحظ والإبراء وإن كان يدعي صلحًا. وقوله: «المسلمون على شروطهم» فهذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة وهذا من باب ما أمر الله تعالى من الوفاء بالعقود. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب أن كعب بن مالك أخبره «أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك فقال يا كعب، فقال لبيك يا رسول الله فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه». قال الشيخ: فيه من الفقه أن للقاضي أن يصلح بين الخصمين وأن الصلح إذا كان على وجه الحط والوضع من الحق يجب نقدًا. وفيه جواز ملازمة الغريم واقتضاء الحق منه في المسجد. .ومن باب في الشهادات: قال الشيخ: أما الشهادة في الحق يدعيه الرجل قبل صاحبه فيخبر بها الشاهد قبل أن يسألها فإنه لا قرار لها ولا يجب تنجيز الحكم بها حتى يستشهده صاحب الحق فيقيمها عند الحاكم، وإنما هذا في الشهادة تكون عند الرجل ولا يعلم بها صاحب الحق فيخبره بها ولا يكتمه إياها. وقيل هذا في الأمانة والوديعة تكون لليتيم لا يعلم بمكانها غيره فيخبره بما يعلمه من ذلك، وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد لا يمنعها ولا يؤخرها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «يأتي أقوام فيحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون» فإنما هو إذا كان على المعنى الأول. وقيل أراد بها الشهادات التي يقطع بها على المغيب فيقال فلان في الجنة وفلان في النار. وفيه معنى التألي على الله تعالى ولذلك ذم وزجر عنه. .ومن باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها: قال الشيخ: الردغة الوحل الشديد، ويقال ارتدغ الرجل إذا ارتطم في الوحل. وجاء في تفسير ردغة الخبال أنها عصارة أهل النار. .ومن باب من ترد شهادته: قال الشيخ: قال أبو عبيد لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك كله أمانة فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27] فمن ضيع شيئًا مما أمر الله أو ركب شيئًا مما نهاه الله عنه فليس بعدل لأنه قد لزمه اسم الخيانة. وأما ذو الغمر فهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة فرد شهادته للتهمة. وقال أبو حنيفة شهادة على العدو مقبولة إذا كان عدلًا. والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال، ويقال إن القانع المنقطع إلى القوم لخدمتهم ويكون في حوائجهم كالأجير والوكيل ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعًا فهي مردودة كمن شهد لرجل على شراء دار وهو شفيعها، وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس فشهد للمفلس على رجل بدين ونحوه. ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر النفع أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والحديث أيضًا حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه الميل إليه ولأنه يملك عليه ماله، وقد قال عليه السلام لرجل «أنت ومالك لأبيك» وذهب شريح إلى جواز شهادة الأب للابن وهو قول المزني وأبو ثور وأحسبه قول داود. .ومن باب شهادة البدوي على أهل الأمصار: قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يحيلها ويغيرها على جهتها. وقال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي لأن في الحضارة من يغنيه عن البدوي إلاّ أن يكون في بادية أو قرية. والذي يشهد بدويًا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب. وقال عامة العلماء شهادة البدوي إذا كان عدلًا يقيم الشهادة على وجهها جائزة. .ومن باب الشهادة في الرضاع: قال الشيخ: قوله: «وما يدريك» تعليق منه القول في أمرها، وقوله: «دعها عنك» إشارة منه بالكف عنها من طريق الورع لا من طريق الحكم، وليس في هذا دلالة على وجوب قبول قول المرأة الواحدة في هذا وفيما لا يطلع عليه الرجال من أمر النساء لأن من شرط الشاهد من كان من رجل أو امرأة أن يكون عدلًا وسبل الشهادات أن تقام عند الأئمة والحكام وإنما هذه امرأة جاءته فأخبرته بأمر هو من فعلها وهو بين مكذب لها ولم يكن هذا القول منها شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتكون سببًا للحكم والاحتجاج به في إجازة شهادة المرأة الواحدة في هذه وفيما أشبهه من الباب ساقط. واختلف في عدد من تقبل شهادته من النساء في الرضاع. فقال ابن عباس شهادة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال. وأجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي. وقال عطاء وقتادة لا تجوز في ذلك أقل من أربع نسوة وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك تجوز شهادة امرأتين وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة. .ومن باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر: قال الشيخ: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي. وقال أحمد لا تقبل شهادتهم إلاّ في مثل هذا الموضع للضرورة. وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي بوجه لا على مسلم ولا على كافر وهو قول مالك. وقال أحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة. وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة أخرى. هذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكرها الله بين هذه الفرق. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصًا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبنا قال فنزلت فيهم: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية [المائدة: 106]». قال الشيخ: فيه حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم تنسخ في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء؛ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآية على الوصية دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وتميم الداري وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى: {ولا نكتم شهادة الله} [المائدة: 106] أي أمانة الله، وقالوا معنى قوله: {أو آخران من غيركم} [المائدة: 06 1] أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد أقربائه وعشيرته دون الأجانب والأباعد، ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله أعلم.
|